أهمية الدين للإنسان

أهمية الدين وضرورته للإنسان

تُعدّ مسألة الدين من أهم القضايا التي شغلت الإنسان منذ فجر التاريخ، وقد لازمته في مختلف مراحل تطوره الحضاري، بدءًا من المجتمعات البدائية وحتى المجتمعات المعاصرة الأكثر تعقيدًا وتنظيمًا. وتظهر أهمية الدين لا باعتباره طقسًا اجتماعيًا فحسب، بل باعتباره نظامًا متكاملًا للمعرفة والسلوك والتوجيه، يشمل حياة الفرد والمجتمع، ويضبط العلاقة بين الإنسان وربّه، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان ومحيطه. وفي ظل التسارع العلمي والتقني الذي يشهده العالم المعاصر، تتعاظم الحاجة للدين كقوة موجهة للضمير الإنساني، وضابطٍ أخلاقي يمنع الانفلات الذي قد يصيب المجتمعات نتيجة الطغيان المادي وفقدان البوصلة الروحية.

الدين كفطرة إنسانية

الدين جزءٌ أصيل من البنية الفطرية للإنسان، فهو لا يقتصر على كونه ظاهرة اجتماعية ظهرت لحاجة معينة ثم اندثرت، بل هو استجابة طبيعية لحاجة داخلية مغروسة في وجدان الإنسان، تتجلى في الشعور بالحاجة إلى قوة عُليا تحكم هذا الوجود وتضبط قوانينه وتمنح لحياة الإنسان معنى وغاية. وقد أكدت الدراسات الأنثروبولوجية أن كل الشعوب والمجتمعات البشرية، منذ أقدم العصور، عرفت أشكالًا من التدين، ما يدل على أن التدين جزء من البنية التكوينية للإنسان، وليس طارئًا على تجربته التاريخية.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة حين قال: “فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم” [الروم:30]، مما يعني أن الميل إلى الدين مركوز في النفس الإنسانية، وأن هذا الميل يتطلب استجابة وتوجيهًا نحو الدين الحق.

الدين كمنظومة أخلاقية وقيمية

من أهم الأدوار التي يقوم بها الدين في حياة الإنسان والمجتمع أنه يشكل منظومة أخلاقية متكاملة، تمد الإنسان بالقيم التي تنظّم سلوكه وتضبط علاقاته بالآخرين. فالدين يدعو إلى الصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان، والرحمة، والتسامح، والتواضع، ويُحرّم الكذب، والخيانة، والظلم، والغش، والأنانية، والحسد، والكبر. وهذه القيم ليست مجرد توجيهات نظرية، بل يتم غرسها في وجدان الإنسان من خلال العبادة والالتزام بأوامر الدين ونواهيه.

وما يميز القيم الدينية عن غيرها من القيم الوضعية أنها ترتبط بمبدأ الثواب والعقاب، ما يجعلها أكثر رسوخًا في النفس البشرية، وأقدر على ضبط السلوك الإنساني، بخلاف القيم التي تنشأ عن قوانين بشرية قد تكون خاضعة للهوى والمصالح المتغيرة. كما أن الدين يمنح الأخلاق بعدًا قدسيًا، ويجعل الالتزام بها عبادةً يُثاب عليها الإنسان، لا مجرد خيار اجتماعي أو قانوني.

الدين كضابط للسلوك الفردي والجماعي

إن الانضباط السلوكي الذي يتمتع به الإنسان المتدين لا ينبع من الخوف من القانون أو من المجتمع، بل من رقيب داخلي حيّ، هو “الضمير الديني”. فالدين يربط الإنسان بعالم الغيب، ويجعل أفعاله خاضعة لمراقبة إلهية دائمة، ما يحفّزه على ضبط سلوكه حتى في الخفاء، ويمنعه من الانحراف الأخلاقي الذي قد يقع فيه الإنسان إذا غاب الرقيب الخارجي.

وهذا الانضباط السلوكي ينعكس على المجتمع بأكمله، فيقلّ فيه الفساد، وتنتشر فيه روح التعاون والتكافل، ويتعزز فيه الإحساس بالمسؤولية الفردية والجماعية، مما يساهم في استقرار المجتمعات وازدهارها. وقد أثبتت العديد من الدراسات السوسيولوجية أن المجتمعات المتدينة أقل عرضة للجريمة والانحراف من غيرها، بسبب وجود منظومة دينية تحكمها وتضبط سلوك أفرادها.

الدين كمعنى وغاية للحياة

يمنح الدين الإنسان تصورًا واضحًا عن غاية وجوده، ويُجيب عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي حيّرت العقول: من أين جئت؟ لماذا أنا هنا؟ وإلى أين المصير؟ وهذه الأسئلة لا يجيب عنها العلم المادي الذي لا يتجاوز الظواهر، بينما يوفر الدين إجابات شافية تطمئن بها القلوب، وتمنح لحياة الإنسان معنًى وهدفًا، وتجعله يدرك أن وجوده ليس عبثًا، بل هو جزء من منظومة إلهية محكمة، غايتها العبادة والابتلاء والتكامل الروحي.

فالإنسان حين يعلم أنه مخلوق لله، وأنه مستخلف في الأرض، ومسؤول عن أعماله أمام الله، فإنه سيعيش حياة ذات مغزى، وسيسعى لتحقيق الخير والصلاح، وسيجد في الدين عزاءً عن مصائب الدنيا، وأملًا في عدالة إلهية مطلقة في الآخرة.

الدين كرافعة نفسية وروحية

يلعب الدين دورًا جوهريًا في تحقيق الصحة النفسية للإنسان، فهو يبعث في النفس الطمأنينة والسكون، ويمنح الإنسان قوة على تحمّل الشدائد والمحن، ويُخفف من شعوره بالوحدة والضياع. وقد أكدت البحوث النفسية الحديثة أن الأشخاص المتدينين أكثر قدرة على التكيّف مع الأزمات، وأقل عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق، وذلك لأنهم يستمدون القوة والعزاء من إيمانهم بالله، ومن ثقتهم بأن وراء كل محنة حكمة، وأن الحياة ليست نهاية المطاف.

كما أن العبادات الدينية، مثل الصلاة، والذكر، والدعاء، والصيام، لها أثر إيجابي كبير في تهذيب النفس وتزكيتها، وتفريغ الطاقات السلبية، وتعزيز المشاعر الإيجابية كالحب، والرضا، والتسامح، والتفاؤل.

الدين كأساس للتشريع والعدالة الاجتماعية

في المجتمعات التي تحتكم إلى الشريعة، يُعد الدين مصدرًا رئيسيًا للتشريع، حيث يُستمد منه القوانين التي تضبط المعاملات، وتحدّد الحقوق والواجبات، وتحقق العدالة بين الأفراد. وتتميز التشريعات الدينية بالشمول والمرونة والعدالة، لأنها صادرة عن الخالق الذي يعلم مصالح عباده وحاجاتهم.

ويُسهم الدين في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال تشريعاته التي تضمن توزيع الثروة بعدالة، وتحضّ على الزكاة والصدقة، وتنهى عن الاحتكار والربا، وتشجع على التكافل والتضامن بين أفراد المجتمع. فالإسلام، على سبيل المثال، يضع نظامًا ماليًا متكاملًا يضمن تحقيق التوازن الاجتماعي، ويحمي الفقراء من الجوع والحرمان، ويمنع الغنى الفاحش والتفاوت الطبقي غير العادل.

الدين كحافظ للهوية الثقافية والحضارية

الدين لا يكتفي بتنظيم الحياة الفردية، بل يُعدّ مكونًا رئيسيًا في تشكيل الهوية الثقافية والحضارية للأمم. فهو يؤثر في اللغة، والفنون، والآداب، والعادات، والتقاليد، والتعليم، والسياسة، ويمنح المجتمعات طابعًا خاصًا يميّزها عن غيرها. والدين، في كثير من الأحيان، يكون هو الرابط الأهم الذي يحافظ على تماسك المجتمعات، خاصة في أوقات التحديات والأزمات.

وقد كانت الحضارات الكبرى، كالحضارة الإسلامية، والحضارة المسيحية الغربية، والحضارة الهندية، والحضارة الصينية، ذات مرجعية دينية قوية، وقد شكّل الدين الأساس الفكري والقيمي الذي قامت عليه تلك الحضارات، وأسهم في ازدهارها وتفوقها.

الدين والنهضة الشاملة

إن الحديث عن نهضة حقيقية في أي أمة لا يمكن أن يكتمل من دون إعادة الاعتبار للدين في حياة الناس. فالدين لا يعوق العلم، بل يحفز عليه، ولا يناهض التقدم، بل يضبطه بالقيم، ويجعل منه وسيلة لخدمة الإنسان، لا أداةً لاستعباده. وقد كان علماء المسلمين الأوائل مثالًا رائعًا على الجمع بين الإيمان والعلم، حيث أسّسوا حضارة عظيمة مزجت بين العقل والنقل، وبين الإيمان والبحث العلمي، وقدمت إسهامات جليلة للبشرية.

مقارنة بين المجتمعات المتدينة والمجتمعات المادية

يمكن توضيح أثر الدين في حياة الإنسان من خلال مقارنة سريعة بين المجتمعات المتدينة والمجتمعات المادية الحديثة:

الخلاصة

إن الدين ليس ترفًا فكريًا أو طقسًا شكليًا، بل هو ضرورة وجودية للإنسان، لا يستقيم حاله في غيابه، ولا تكتمل إنسانيته إلا به. فالدين يمنح الإنسان معنى وغاية، ويهذب سلوكه، ويحميه من التفسخ الأخلاقي، ويعزز تماسكه النفسي والاجتماعي، ويصوغ حضارته على أسس العدل والرحمة. وفي زمن تزايدت فيه الأزمات الأخلاقية والنفسية والاجتماعية، تبرز الحاجة الملحة إلى الدين كمنقذ للإنسانية، وكمرجعية عليا تحفظ للإنسان كرامته وإنسانيته في خضم الفوضى المادية والانحرافات الفكرية.

المراجع:

1. ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

2. علي عزت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب